محمد سيف/باريس
مهرجان المسرح الوطني العراقي، هل هو استعادة للحياة المسرحية العراقية، أم انه استعادة لمدنيّتنا! هل يمكن أن نسميه يقظة طال انتظارها، تحدٍ للظروف القاهرة التي واجهت الحياة بشكل عام والعراق بشكل خاص، مغامرة يُرجى من نتائجها مصالحة المسرح بأهل المسرح، أم أنه كل هذا تحت يافطة المسرح حياة؟
الكل يعلم أن المهرجان الذي دُعي إليه 260 شخصاً تقريباً، وتوفر على 18 عرضاً مسرحياً، منها عشرة عروض رسمية وثمانية موازية، وعلى ندوات نقدية وفكرية وإصدارات للكتب، ومحاضرات لأساتذة متخصصين حول محاور مختلفة ومتنوعة. يحتاج بالإضافة الى الجهود الجبارة لنقابة الفنانين وأعضاء إدارتها الموقرين الى دعم مادي ومعنوي، وأعتقد أن الهيئة العربية للمسرح كان لها دوراً فعالاً ومركزياً في دعم جهود عراب هذه التظاهرة الفنية رئيس نقابة الفنانين العراقيين الدكتور جبار جودي وفريق عمله في إدارة دفة السفينة التي أُلقت بنفسها في عرض البحر، وعلى الرغم من مشقة الرحلة وتعثراتها واصطدام سفينتها بالعديد من الأمواج والصخور والمصاعب، استطاعت أن تصل الى بر الأمان بعد رحلة ماراثونية مليئة بالأسرار والكواليس، لكي تحقق أخيراً وليس آخراً عرساً مسرحياً عراقياً بامتياز، لم ينتظره المسرحيون فقط وإنما الجمهور العراقي أيضاً الذي عوده مسرحيينه الأوائل على استنشاق المسرح هواءاً لهم .
وفي يوم 1 / 8 / 2021 إبتدأ الحفل وتوهجت أضواء المسرح لتضيء عتمة بغدادنا الجميلة؛ بغدادنا التي كانت تنتظر بلهفة مثل هذا العرس المسرحي؛ مثل هذه الخطوة الجريئة، والبركة بالحركة، نعم، من دون حركة ليس هناك خطواً، ليس هناك وجوداً، وليس هناك حياة.
الآن وقد انتهي العرس، ولكن ليس المسرح، وإنما ربما بدأ مشواره من جديد، بعد ان كان متوقفا أو متعثرا، بسبب الظروف القاهرة التي يعرفها الجميع، وعندما تتوقف الحياة في مدينة من المدن يتوقف المسرح هو أيضا. بلا شك أن المدينة قد سبقت المسرح في اللعب، والعرض والجمهور، والحالات، والمواقف، والملاحظات المتبادلة، من خلال كل ما يتفاعل فيها من وسائل اتصال مباشرة مع الجمهور نفسه او تحت غطاء مؤسساتي، سواء كان ذلك واضحا للعيان او خفيا. ولكن عندما يتناول المسرح أو يأخذ بالاعتبار او الحسبان، بعض ملامح الحياة التي هي في حالة عرض دائم ومستمر في المدينة، فهو يعتقد أن هذه المظاهر الحياتية والأفعال والنشاط الجمعي تفتقد الى بعض من الحياة، وأحيانا، لأنها تحتاج الى رجاحة العقل، والى تحسين نوعية عرضها وتقديمها، بفضل الخيال والخبرة والصقل. فالمسرح، في كل المجتمعات، كان عبارة عن مكان كبير للتجمهر الذي يأخذ على عاتقه، في ذات الوقت، مظاهر الطقس والاحتفال. وقد خُصص للجمهور فيه مكانا أختلف وتغيرت مواضعه وفقا لتوالي العصور والحقب. وهذا ما سجلته معمارية المسرح نفسها التي أخذت هي الأخرى، على مر الزمن، أشكالا وأبعادا مختلفة ومتعددة. وإن الأحداث المعروضة من قبل الممثلين سواء بطريقة منمقة أو واقعية، وفقا لما نريد أو نحاول الاقتناع به من خلال صدق الخيال، تُنظم في جملتها عرضا من الوجود الإنساني الذي يسمح لكل واحد لأن يسائل صورته الخاصة، وتجعله يفكر من خلال هذه المرآة العاكسة. وهنا يكمن جوهر المسرح الذي يحاول من خلال عمليه إدخال أو زج الممثلين في لعبته، اعطاء المظاهر الموجودة مسبقا في المدينة، نوعا من الحياة والطاقة الدراماتيكية والجمال. أليس هذا ما كانت تبحث عنه نقابة الفنانين العراقيين والهيئة العربية للمسرح عندما أصرا على تحقيق مهرجان العراق الوطني للمسرح! ولكن هذه الاحكام القيمية، إن صح التعبير، لا يشترك او يشاطرها الرأي بالضرورة سكان المدينة كلهم، وهذا ما يحدث في اغلب الاحيان بمدننا العربية التي اكثرها لا تمارس الحياة المدنية، ولم تأسس تقاليد مسرحية مثلما اسس لها المسرح الغربي. وقامت بتجريد المسرح من وظائفه الجمالية، بشكل من الاشكال، واختصرت تساؤلاته الجوهرية حول علاقة الانسان بوجوده وبالآخر وعلاقته بالسلطة وبما يحيط به من متغيرات وتحولات، بعوامل بديهية بسيطة وأحيانا سطحية، مثل المتعة، واللهو، والوعظ، والتلقين، والاملاء، والدعاية، وتجاهلت انه، اولا وقبل كل شيء، حدث وفعل ثقافي يجب ان يكون فعالا، ومن اجل ان يتطور كمشروع ثقافي، لا بد من استخدامه من اجل الفائدة، من خلال فعل المشاركة بين مجموعة أطراف تساهم في صناعة فرجته، وأحلامه وأوهامه وخياله ولعبه المسرحي الذي صار يتجاوز حدود الواقع، ويلقى بجمهوره بحقيقة الاحلام التي اصبحت فوق خشباته أكثر حقيقة من الوجود الحي نفسه.
يتأسس الحدث المسرحي على هيئة شبكة من العلاقات التي تتحقق في الزمكان، في سلسلة من الاتصالات المختلفة: بين الممثلين والشخصيات والجمهور، وبين الفعل الدرامي والجمهور، وبين معمار المسرح نفسه. ومع ذلك فإن هذا التواصل المسرحي يكون حساسا بشكل خاص، لان الجمهور لا يستقبل الرسائل المسرحية بنفس الطريقة، فالبعض، مثلما يقول دنيس بابلية، (يحصل على جزء منها، والبعض الآخر يقرأ هذا الذي لا يريد قراءته المخرج)، وذلك لان هذا التواصل، (عقلاني وغير منطقي، في ذات الوقت، ويلامس الفكر والحساسية، وحتى أعمق الطبقات، ويصل مباشرة الى الفسيولوجية الخفية للمتفرج) ، هذا بالإضافة إلى أن المسرح قي أصله اليوناني “مدنيّ”. والعربي لم يؤسس وفقا “لأدونيس” في بيانه المسرحي، مدينة، بالمعنى اليوناني، أي مدينة قانون وتشريع مفاهيم جديدة للحياة. لا سيما أن “اثينا” كانت “المدينة المسرحية”، وفقا لأفلاطون في كتابه “القوانين”. كان الإغريق “أقوياء بفن الحوار الذي يرتفع به العقل من المحسوس إلى المعقول”، حسب أفلاطون، و”بارعون بفن المحادثة”. لقد لاحظوا أهمية حضور المستمع المتحفز، الذي يسمح للخطيب بتشكيل فكرة تبقى، بدونه غير مكتملة. وهذا ما سمح للمواطن الاغريقي من تمثل فردانيته وبالتالي اكتشاف حريته وإبعاده عن العقلية القديمة المتمثلة بالثأر والعنف والحكم الفردي والإقطاعي وإلى اخره. في حين ان المدينة التي انشأها العربي، (كانت تنويعا على الخيمة وثأرا منها في الوقت ذاته: أي انها كانت قصرا وجارية وحديقة، ولم تكن وليدة وعي تنظيمي-حضاري. بل يمكن القول، استطرادا، إن المدينة العربية المدنيّة، لم تنشأ حتى الآن) . وهذا يعني ان المدينة لا تعني المدنيّة بالضرورة، على الاقل في مجتمعاتنا العربية، لان المدينة على امتداد تاريخها الطويل، لا تتميز بعدد سكانها ولا بعماراتها الشاهقة التي تناطح السحاب، ولا بأنشطة الناس الذين يقيمون فيها، وانما وبالدرجة الاساس، بمميزات خاصة للوضع القانوني والتشريعي والاجتماعي والسياسي والثقافي والمعماري. وهذا ما لم يحدث في مدننا العربية، بسبب احتكار السلطة وتهميش عامل المواطنة والمشاركة ومصادرة الفضاءات العمومية التي يمكن اعتبارها برلمانا عاما، لمصالحها السياسية والدعائية التي انتجت ردود فعل شعبية كونت في شكلها ومضمونها ظواهر مسرحية احتواها المخيال الشعبي الذي كان ولازال يمارس نوعا من الاحتجاج المبطن كرد فعل لهذا الاقصاء الاجتماعي والسياسي والثقافي. يقول ادونيس، إن المدينة العربية (لا تزال حتى الان، دون مدنيّة، فهي ماديا، شكل اسمنتي للصحراء، واجتماعيا، شكل تراكمي، للعلاقات القبلية- الدينية). بلا شك ان ادونيس يتحدث عن الماضي أكثر ما يتحدث عن الحاضر، ولكن ما بين الماضي والحاضر هنالك دائما وشائج تبني صروحا تشريعية وقانونية وثقافية واجتماعية وسياسية تظل بالضرورة عالقة في الذاكرة والممارسة وتضرب جذورها في المجتمعات وهيكلتها، ولهذا علاقة الانسان العربي بالمسرح تكاد أن تكون مزدوجة ومثقلة بالغموض والتناقض. ونعتقد أن مهرجان العراق الوطني للمسرح، في خطوته الأولى هذه، كان بمثابة دعوة صريحة لاستعادة مدنيّتنا والتفكير بمستقبل مسرحنا بطريقة تليق بماضيه وارثه.